فصل: ويلتحق بالإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما يكون بعد الموت

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


ويلتحق بالإيمان باليوم الآخر‏:‏ الإيمان بكل ما يكون بعد الموت مثل

فتنة القبر

وهي سؤال الميت بعد دفنه عن ربه، ودينه، ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول‏:‏ ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏ ويضل الله الظالمين فيقول الكافر هاه، هاه، لا أدري‏.‏ ويقول المنافق أوالمرتاب لا أدري سمعت الناس لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته‏.‏

عذاب القبر ونعيمه

فيكون العذاب للظالمين من المنافقين والكافرين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام، الآية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وقال تعال في آل عمران -‏:‏ ‏{‏النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏سورة غافر، الآية‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل بوجهه فقال‏:‏ تعوذوا بالله من عذاب النار‏.‏ قالوا‏:‏ نعوذ بالله من عذاب النار‏.‏ فقال‏:‏ تعوذوا بالله من عذاب القربر‏.‏ قالوا‏.‏ قالوا‏:‏ نعوذ بالله من عذاب القبر‏.‏ قال‏:‏ تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن‏.‏ قال‏:‏ تعوذوا بالله من فتنة الدجال‏.‏ قالوا‏:‏ نعوذ بالله من فتنة الدجال، قالوا‏:‏ نعوذ بالله من فتنة الدجال ‏[‏رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب‏:‏ عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه‏]‏‏.‏

وأما نعيم القبر فللمؤمنين الصادقين قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏سورة فصلت، الآية‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ‏}‏ ‏[‏سورة الواقعة، الآيات‏:‏ 83-89‏]‏‏.‏

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في المؤمن إذا أجاب الملكين في قبره مد بصره‏)‏ ‏[‏أخرجه الإمام أحمد 4/287 ، وابو داود ، كتاب السنة ، باب‏:‏ المسألة في عذاب القبر ، والهيثمي في ‏"‏ مجمع الزوائد 3/49-50، وأبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ 8/10، وابن أبي شيبة في المصنف 3/374 ، والآجري في ‏"‏ الشريعة ‏"‏ ص 327 ، وقال الهيثمي‏:‏ ‏"‏رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح‏"‏‏.‏‏]‏ رواه أحمد أبوداود في حديث طويل‏.‏

وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة منها

الأولى‏:‏ الرغبة في فعل الطاعة والحرص عليها رجاء لثواب ذلك اليوم‏.‏

الثانية‏:‏ الرهبة عند فعل المعصية والرضى بها خوفًا من عقاب ذلك اليوم‏.‏

الثالثة‏:‏ تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها‏.‏

وقد أنكر الكافرون البعث بعد الموت زاعمين أن ذلك غير ممكن‏.‏

وهذا الزعم باطل دل على بطلانه الشرع، والحس، والعقل‏.‏

أما الشرع‏:‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏سورة التغابن، الآية‏:‏ 7‏]‏ وقد اتفقت جميع الكتب السماوية عليه‏.‏

وأما الحس‏:‏ فقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفي سورة البقرة خمسة أمثلة على ذلك وهي‏:‏

المثال الأول‏:‏ قوم موسى حين قالوا له‏:‏ ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 55‏]‏ فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطبًا بني إسرائيل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآيتان‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏

المثال الثاني في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنوإسرائيل، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ليخبرهم بمن قتله، وفي ذلك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَفَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ الآيتان‏:‏ 72-73‏]‏‏.‏

المثال الثالث‏:‏ في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت وهم ألوف فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 243‏]‏‏.‏

المثال الرابع‏:‏ في قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله تعالى، فأماته الله تعالى مئة سنة، ثم أحياه وفي ذلك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 259‏]‏‏.‏

المثال الخامس‏:‏ في قصة إبراهيم الخليل حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى‏؟‏ فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله، ثم يناديهن فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض، ويأتين إلى إبراهيم سعيًا، وفي ذلك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 260‏]‏‏.‏

فهذه أمثلة حسية واقعية تدل على إمكانية إحياء الموتى، وقد سبقت الإشارة إلى ما جعله الله تعالى من آيات عيسى ابن مريم من إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى‏.‏

وأما دلالة العقل فمن وجهين

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى فاطر السماوات والأرض وما فيهما، خالقهما ابتداء، والقادر على ابتداء الخلق لا يعجز عن إعادته، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏سورة الروم، الآية‏:‏ 27‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء، الآية‏:‏ 104‏]‏‏.‏ وقال آمرا بالرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم‏:‏ ‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏سورة يس، الآية‏:‏ 79‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأرض تكون ميتة هامدة ليس فيها شجرة خضراء، فينزل عليها المطر فتهتز خضراء حية فيها من كل زوج بهيج، والقادر على إحيائها بعد موتها، قادر على إحياء الموتى‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏سورة فصلت، الآية‏:‏ 39‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏}‏ ‏[‏سورة ق، الآيات‏:‏ 9-11‏]‏‏.‏

وقد ضل قوم من أهل الزيغ فأنكروا عذاب القبر، ونعيمه، زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفة الواقع، قالوا فإنه لوكشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق‏.‏

وهذا الزعم باطل بالشرع، والحس، والعقل‏:‏

أما الشرع‏:‏ فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر، ونعيمه في فقرة ‏(‏ب‏)‏ مما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر‏.‏

وفي صحيح البخاري - من حديث - ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏(‏خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما‏)‏ ‏[‏رواه البخاري ، كتاب الوضوء باب ‏:‏ من الكبائر أن لا يستبرأ من بوله‏.‏ ومسلم ، كتاب الطهارة باب‏:‏ الدليل على نجاسة البول ووجوب الإستبراء منه‏]‏ وذكر الحديث، وفيه‏:‏ ‏(‏أن أحدهما كان لا يستتر من البول‏)‏ وفي - رواية - ‏"‏ من ‏(‏بوله‏)‏ وأن الآخر كان يمشي بالنميمة‏"‏‏.‏

وأما الحس‏:‏ فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج يتنعم فيه، أو أنه كان في مكان ضيق موش يتألم منه، وربما يستيقظ أحيانًا مما رأى، ومع ذلك فهوعلى فراشه في حجرته على ما هو عليه، والنوم أخوالموت ولهذا سماه الله تعالى‏:‏ ‏"‏وفاة‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة الزمر، الآية‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وأما العقل‏:‏ فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للمواقع، وربما رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صفته، ومن رآه على صفته فقد رآه حقًا ومع ذلك فالنائم في حجرته على فراشه بعيدًا عما رأى، فإن كان هذا ممكنًا في أحوال الدنيا، أفلا يكون ممكنًا في أحوال الآخرة‏؟‏‏!‏

وأما اعتمادهم فيما زعموه على أنه لوكشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق، فجوابه من وجوه منها‏:‏

الأولى‏:‏ أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمل المعارض بها ما جاء به الشرع حق التأمل لعلم بطلان هذه الشبهات وقد قيل‏:‏

وكم من عائب قولًا صحيحًا ** وآفته من الفهم السقيم

الثاني‏:‏ أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحس، ولو كانت تدرك بالحس لفاتت فائدة الإيمان بالغيب، ولتساوى المؤمنون بالغيب، والجاحدون في التصديق بها‏.‏

الثالث‏:‏ أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه إنما يدركها الميت دون غيره، وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيق موحش، أوفي مكان واسع بهيج، وهو بالنسبة لغيره لم يتغير منامه هو في حجرته وهو بين أصحابه فيسمع الوحي، ولا يسمعه الصحابة، وربما يتمثل له الملك رجلًا فيكلمه والصحابة لا يرون الملك، ولا يسمعونه‏.‏

الرابع‏:‏ أن إدراك الخلق محدود بما مكنهم الله تعالى من إدراكه ولا يمكن أن يدركوا كل موجود، فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن، وكل شيء يسبح بحمد الله تسبيحًا حقيقيًا يسمعه الله تعالى من شاء من خلقه أحيانًا‏.‏ ومع ذلك هو محجوب عنا، وفي ذلك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء، الآية‏:‏ 44‏]‏ وهكذا الشياطين، والجن، يسعون في الأرض ذهابًا وإيابًا، وقد حضرت الجن إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستمتعوا لقراءته وأنصتوا وولوا إلى قومهم منذرين‏.‏ ومع هذا فهم محجوبون عنا وفي ذلك يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف، الآية‏:‏ 27‏]‏ وإذا كان الخلق لا يدركون كل موجود، فإنه لا يجوز أن ينكروا ما ثبت من أمور الغيب، ولم يدركوه‏.‏

وتؤمن بالقدر خيره وشره ‏[‏القدر بفتح الدال‏:‏ ‏"‏تقدير الله تعالى للكائنات، حسبما سبق علمه، وأقتضته حكمته‏"‏‏.‏‏]‏ والدليل على هذه الأركان الستة قوله

والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور‏:‏

الأول‏:‏ الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلًا، أزلًا وأبدًا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أوبأفعال عباده‏.‏

الثاني‏:‏ الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏سورة الحج، الآية‏:‏ 170‏]‏‏.‏

وفي صحيح مسلم- عن عبد الله بن عمروبن العاص رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏)‏‏.‏ ‏[‏رواه مسلم ، كتاب القدر ، باب‏:‏ ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام‏.‏‏]‏‏.‏

الثالث‏:‏ الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ‏}‏ ‏[‏سورة القصص، الآية‏:‏ 86‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم، الآية‏:‏ 27‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران الآية‏:‏6‏]‏‏.‏ وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ‏}‏ ‏[‏سورة النساء، الآية‏:‏ 90‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام، الآية‏:‏ 112‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 177‏]‏‏.

الرابع‏:‏ الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، وحركاتها، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ الآية‏:‏ 12‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان، الآية‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقال عن نبي الله إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏سورة الصافات، الآية‏:‏ 96‏]‏‏.‏

والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له‏.‏

أما الشرع‏:‏ فقد قال الله تعالى في المشيئة‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا‏}‏ ‏[‏سورة النبأ، الآية‏:‏ 39‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 223‏]‏ وقال في القدرة‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا‏}‏ ‏[‏سورة التغابن، الآية‏:‏ 16‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 286‏]‏‏.‏

وأما الواقع‏:‏ فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع‏:‏ بإرادته كالمشيئة وما يقع بغير إرادته كالارتعاش، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى، وقدرته لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏سورة التكوير، الآيتان‏:‏ 28-29‏]‏ ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته‏.‏

والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من ‏{‏آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 177‏]‏

الواجبات أو فعل من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه

الأول‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام، الآية‏:‏ 148‏]‏ ولوكان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه‏.‏

الثاني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏سورة النساء، الآية‏:‏ 165‏]‏ ولوكان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى‏.‏

الثالث‏:‏ ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة‏.‏ فقال رجل من القوم‏:‏ ألا نتكل يارسول الله ‏؟‏ قال لا اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ ‏{‏فأما من أعطى واتقى‏}‏ ‏[‏رواه البخاري ، كتاب التفسير‏.‏‏]‏ الآية‏.‏ وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏(‏فكل ميسر لما خلق له‏)‏ ‏[‏رواه مسلم ، كاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏‏]‏ فأرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعمل ونهى عن الإتكال على القدر‏.‏

الرابع‏:‏ أن الله تعالى أمر العبد ونهاه

ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏سورة التغابن‏:‏ الآية 16‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ ودليل القدر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏سورة القمر، الآية‏:‏ 49‏]‏‏.‏

{‏لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 286‏]‏ ولو كان العبد مجبرًا على الفعل لكان مكلفًا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه فلا إثم أو إكراه، فلا إثم عليه لأنه معذور‏.‏

الخامس‏:‏ إن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور

وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنفى حجته إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه‏.‏

السادس‏:‏ أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر

فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر‏؟‏‍‍‍‍‍‍‍ أفليس شأن الأمرين واحدًا‏؟‏

وإليك مثالًا يوضح ذلك‏:‏ لوكان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهى به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك‏؟‏ إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدًا أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر‏؟‏

مثال آخر‏:‏ نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهي عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبًا للشفاء‏.‏

والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر‏؟‏